علامات الفكر المتهافت [6]: فساد الصورة

 

ممَّا يُصيِّرُ المعنى متهافتًا ساقطًا من حيث معطاه العلمي وإفادته المعرفيَّة وروده بصور كلاميَّة لا توافقُ حقيقتُه الموضوعَ المصوَّرَ فيها، ولا تطابقها؛ بل تجافيها وتباينها.

وبذلك يكون ذلك المعنى على خلاف الحقيقة وواقع الأمر، فيكون ساقط الاعتبار متهافتًا بموجب ذلك.

وهذا كما يقع في التصوُّرات يقع في الأحكام (التصديقات).

فالتعريف الذي لا يفي مضمونُه بحقيقة المعرَّف به، ولا يفهمه على الوجه المطلوب والمطابق لتلك الحقيقة يُصيِّرُ مضمونَه فاسدًا مطرحًا، لأنَّه يفيد خلاف المراد، وما يدلُّ عليه، وبذلك يكون مضلاًّ، موقعًا في الجهالة.

وهذا يسري على التصورات المحصَّلة من جهة الاستحسان النَّفسي من غير عرضها على النَّظر والقواعد العلميَّة التي تعرف بها حقيقتها في واقع الأمر.

وهذا تلفيه فيما يلتقطه المقلِّدون - بالكسر - من المقلَّدين - بالفتح - إذ يلتقون منهم ما يصدر عنهم من تصوُّراتٍ عن عمايةٍ، ثمَّ يلغطون به في المجالس والنَّوادي؛ من غير إدراكٍ لصحَّة معناه أو فساده؛ بل من غير معرفة معناه، أو المراد به أحيانًا، لكن لمَّا كانوا عبيدًا في الفكر والنَّظر لمقلَّديهم - بالفتح - جروا وراءهم يلهثون طالبين لرضاهم فقط.

وهذا الذي ذكر في التَّصوُّراتِ يسري حكمُه على التَّصديقات (الأحكام) فالكلام إذا كان مركَّبًا على صورة في مضامينها الإخلال بالمطابقة والصّدق، أو بما تحصل به الحركة الذِهنيَّةُ التي يتوصَّلُ بها إلى إدراك المطلوب؛ كلامٌ ساقطُ الاعتبارِ مضمونُه متهافتٌ لا يُعتدُّ به، لأنَّه يتَّصف إمَّا بالتَّضْليلِ، وإمَّا بالتَّقصير.

نعم، وضعَ المناطقةُ ما وضعوه من منهج في شأن تحصيل بناء التَّصوُّرِ، والتّصديق، وذكرُوا الأشكالَ وضرُوبَها المنتجةَ وغير المنتجةِ وهذا أمر معلومٌ مبيَّنٌ في المنطق، فلا نطيل به، لكنَّه يجبُ أن يُستفادَ ويُعملَ به في مواضعه، وحيث يكون العمل به أمرًا مفيدًا - ضابطا مبينًا -.

كما يستفاد في علم البيان الضوابط والقواعد التي وضعت في هذا العلم، والتي مدارها على وجوب المطابقة بين الكلام، وموضوعه من غير إخلال بالبيان المطلوب فيه بالنَّقص أو بالحشو، وساقط المقال، أو بالتَّعقيد المفسد للمعنى.

وكذلك ما ذكره الأصوليُّون في شأن بناء الأحكام من وجوب التَّرتيبِ بين الأدلَّة، وسمَّوْا خلاف مقتضى ذلك بفساد الاعتبار. إلَّا أنَّ هذا غير كافٍ في هذا الشَّأن، فإنَّ فسادَ الصُّورةِ ينظم كلَّ كلام صيغ على خلاف الواقع سواءٌ كان بما ذكره البيانيُّونَ، أو المناطقةُ، أو الأصوليُّون، أو كان مشحونًا بالتهويل والتفخيم، أو الاستهانة والاستخفاف، أو كان غير محدَّدِ المضمون، وإنَّما يُتصرَّفُ فيه بحسب الرَّغبات؛ بل كلّ ما ينشأ عنه التَّضليل، والصدُّ عن إدراك الحقيقة وواقع الأمر.

تلفي هذا الضَّربَ من الفساد عند الذين يجهلون طرق بناء الكلام على الوجه المفيد الصَّحيحِ كما تجده عند الذين تسوقهم الرَّغبةُ النَّفسيَّةُ، وهم في ضلالتهم يعمهون.

فكلا الطَّرفين تكون صورُ كلامه مضطربةً مختلَّةَ النَّسْجِ والصَّوْغِ، مضمونُها لا يفيدُ المعنَى، ولا ينشئ حركةً صحيحةً في الأذهان. وأمثلة هذا الموضوع يندرج تحتها كلُّ كلام فاسد الصُّورة كيفما كان موضوعه ومضمونه.

 

يتبع...