تقرير عن المصحف الموريتاني
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعد :
فلعل مما يخفى على غير المتخصصين أن المصاحف المطبوعة منذ أوائل القرن العشرين قد اشتملت على كثير من التركيب وحوت كثيرا من القياس.
وظلت اللجان العلمية تستنسخ من المصاحف السابقة مكتفية بالتدليس على العوام عدم تبيان طريق المصحف بالتحديد، إذ لا يعني إعلانهم أن هذا المصحف برواية ورش من طريق الأزرق شيئا، ذلك أن للأزرق عن ورش خمسة وثلاثين طريقا مقروء بها في طيبة النشر لابن الجزري.
وللأزرق عن ورش عدة طرق حية معلومة عند المتخصصين منها:
ـ طريق ابن نفيس وكان عليها مدار الأداء في بلاد شنقيط وتقتصر عليها أسانيدهم قبل الاستقلال وهي كالتالي:
عن كل من ابن شريح (ت 476 هـ) في كتابه الكافي، وابن بليمة (ت 514 هـ) في كتابه تلخيص العبارات، وابن الفحام الصقلي (ت 516 هـ) في كتابه التجريد: ثلاثتهم عن ابن نفيس عن أبي عديّ عن ابن سيف عن الأزرق عن ورش.
ـ طريق الداني في التيسير وهي اختياره، وهي قراءة الداني على شيخه الخاقاني عن ابن أسامة التجيبي عن النحاس عن الأزرق عن ورش.
وقرأ بها الشاطبي في الحرز عن ابن هذيل عن أبي داوود عن الداني في التيسير.
وقرأ بها الشاطبي عن النفزي عن ابن غلام الفرس عن شيوخه: أبي داوود، وابن البياز، وابن الدوش ثلاثتهم عن الداني في التيسير.
ـ طريق الداني (ت 444 هـ) عن الخاقاني عن الأنماطي عن الخياط عن النحاس عن الأزرق، وأطلقها ابن الجزري في النشر، وهي في جامع البيان للداني.
قرأ بها الشاطبي في الحرز عن النفزي عن ابن غلام الفرس عن أبي داوود عن الداني.
ـ طريق الداني (ت 444 هـ) عن شيخه فارس بن أحمد عن ابن عراك عن أبي جعفر الخولاني حمدان بن عون عن النحاس عن الأزرق وهي في جامع البيان للداني.
ـ طريق الداني (ت 444 هـ) عن شيخه الخاقاني عن أبي بكر ابن أبي الرجاء عن النحاس عن الأزرق، أطلقها ابن الجزري وهي في جامع البيان.
وقد خالف مصحف موريتانيا كلا من هذه الطرق في كثير من أحرف الخلاف وكاد يتفق مع طريق الداني في التيسير لولا مخالفته إياها في أحرف قليلة لزمني تبيانها لإخراج مصحف موريتانيا ـ شنقيط ـ محررا أكثر من جميع مصاحف ورش المطبوعة في العالم الإسلامي؛ كمصاحف السعودية والمغرب والجزائر وتونس وقطر والشام.
ومن تلك الأحرف:
1. ﴿يـس والقرآن﴾ بالإظهار وهو عجيب من اللجنة، بل لا يصح تصوره إلا أن يكون مصحف شنقيط من غير طريق الشاطبية والتيسير إذ ليس لهما غير الإدغام بغنة فيها كما في التيسير (ص: 33) وصريح الشاطبية وكما في النشر (2/17).
قال الداني في التيسير في بداية فرش سورة يس: "ورش وأبو بكر وابن عامر والكسائي يدغمون نون الهجاء في الواو ويبقون الغنة وكذلك في ﴿ن والقلم﴾ غير أن عامة أهل الأداء من المصريين يأخذون في مذهب ورش هنالك بالبيان" اهـ أي يأخذون لورش بالإظهار في فاتحة سورة القلم.
وقال الشاطبي :
وياسين أظهر عن فتى حقه بدا *** ونون وفيه الخلف عن ورشهم خلا
ويعني أن حفصا وحمزة وابن كثير وأبا عمرو وقالون أظهروا نون يس قبل الواو أي أن المسكوت عنهم ومنهم ورش أدغموا يس في والقرآن .
وقال ابن الجزري في النشر: "وقطع له بالإدغام من رواية ورش صاحب التيسير والكافي والتبصرة والتلخيص والشاطبية وقال في الهداية: إنه الصحيح عن ورش، وقطع له بالإظهار من الطريق المذكورة صاحب التجريد" اهـ
قلت: أي أن الإظهار في يس من طريق ابن نفيس شيخ ابن الفحام صاحب التجريد، ويلزم مع الإظهار في ﴿يـس والقرآن﴾ فتح جميع ذوات الياء غير رؤوس الآي من السور المعلومة وغيره من المسائل التي اتبعت فيها اللجنة طريق التيسير والشاطبية.
2. ﴿ن والقلم﴾ بالإدغام وهو المخالف لطريق الشاطبية والتيسير؛ إذ هي فقط بالإظهار كما قال في النشر (2/18) "وقطع له بالإظهار صاحب التذكرة والعنوان وقال في الهداية إنه الصحيح عن ورش، وقال في التيسير إنه الذي عليه عامة أهل الأداء، وأطلق الوجهين جميعا عنه أبو عبد الله ابن شريح وأبو القاسم الشاطبي" اهـ.
قلت: وقد خرج الشاطبي رحمه الله عن طريقه حين أدغم فاتحة القلم لأن أداءه خارج التيسير عن الأزرق هو من طريق الخياط عنه، وهو من قراءة الداني على الخاقاني، وهذه فقط بالإظهار كما في التيسير (ص 183)، وكما في التعريف في اختلاف الرواة عن نافع للداني في باب الإظهار والإدغام وفي فرش يـس، ولا يخفى اعتماد الداني في التعريف على الخاقاني للأزرق مما يعني خروج الشاطبي عن طريقه حين أدغم فاتحة القلم.
قلت: والغريب العجيب أن ضبط المصحف المذكور خالف بين الحرفين حين أظهر فاتحة يـس وأدغم فاتحة القلم، والصواب هو العكس في طريق الشاطبية والتيسير.
نعم إن الإدغام في فاتحة القلم والإظهار في ﴿يس والقرءانِ﴾ هما لابن نفيس لكن يلزم معه اتباع أداء ابن نفيس في مئات الكلمات الأخرى في باب الهمز والراءات والإمالة الصغرى، ومنها فتح جبارين والجار ومنها الفتح في ذوات الياء غير رؤوس الآي في السور الإحدى عشرة.
3. ﴿ها أنتم﴾ في موضعي آل عمران وفي النساء والقتال بالإبدال والإشباع للألف بين الهاء والنون من غير همزة وهو أحد وجهي الشاطبية؛ غير أن طريقها هو وجه قصر الهاء أي حذف الألف بعده واللفظ بهمزة بين بين فقط، وهي قراءة الداني على الخاقاني كما اقتصر عليه في التيسير (ص 88) في فرش آل عمران، وكما اقتصر عليه المالقي شارح التيسير (4/222)، وكما في النشر (1/400) عنه، وكما قدّمه القاضي في البدور (ص 63)، وصاحب غيث النفع (ص 176 )، وقول الشاطبي: " كم مبدل جلا" اهـ إنما هو للحكاية والعلم لا الأداء من طريقه؛ إذ ذكر قبله الأداء والطريق بقوله:
ولا ألف في ها هأنتم زكا جنا *** وسهل أخا حمد
أي حذف الألف بعد الهاء لقنبل والأزرق عن ورش، وتسهيل الهمزة بين بين لنافع وأبي عمرو مما يعني أن ليس للأزرق في الشاطبية غير ما ذكرنا.
والعجيب أن الوزارة المكلفة بالشؤون الإسلامية خالفت طريق الشاطبية والتيسير، وخالفت طريق ابن نفيس أيضا في هذا الحرف؛ إذ هي بإثبات الألف وإثبات همزة بين بين مثل قراءة أبي عمرو، وأبي جعفر، ورواية قالون كما في النشر (1/400) إذ ذكرها ضمن ما للتبصرة والكافي والتجريد والتلخيص لابن بليمة وطريقهم هي قراءتهم على ابن نفيس.
4 . ﴿هؤلاء إن﴾ في البقرة، وقوله: ﴿على البغاء إن﴾ في النور بإبدال الثانية حرف مدّ وهي طريق ابن نفيس، ولا يخفى أن طريق الشاطبي في الحرز وطريق الداني في التيسير هي قراءة الداني على شيخه الخاقاني وهي فقط بإبدال الحرفين في البقرة والنور ياء خالصة مكسورة، أما وجها الشاطبي الآخران فمن زياداته غير المقروءة قال ابن الجزري في النشر (1/385) :"ولم يقرأ بغير إبدال الياء المكسورة على ابن خاقان كما أشار إليه في التيسير" اهـ
5. ﴿اللائي﴾ في الأحزاب والمجادلة وموضعي الطلاق: الكلمة الوحيدة التي ضبطت مراعاة للوقف ولا معنى له إلا التدليس على العوام الذين لا يعرفون القواعد، والأصل هو ضبط آخر كل كلمة في القرآن تبعا للدرج وإلا للزم أن يجعل السكون في آخر كل كلمة من المصحف تبعا للوقف وهو ظاهر الفساد، والواقع أنها متفق عليها للأزرق عن ورش بهمزة بين بين مكسورة مقصورة عن المد، كما في التيسير (ص 177 ـ 178) وكما في تحبيره (ص 163) وكما في التعريف للداني وكما في الشاطبية " كالياء مكسورا لورشهم" اهـ. يعني في حالة الوصل ببين بين وهي هنا كالياء مكسورة إذ هي بين الهمزة المكسورة والياء المدّية وكما في النشر (1/404) وغيره، والأولى ضبطها حالة الوصل هكذا كسائر كلمات القرآن أي بالكسرة تحت النقطة التي يستدلون بها على التسهيل ببين بين والتنبيه على عدم مدّها بياء ولا مانع من التنبيه في آخر المصحف على قراءتها في الوقف اضطرارا بالإسكان دون الروم كما في النشر (1/408) أنه بياء ساكنة لينة بعد الألف المشبع من غير همزة.
6. عدم وضع الدارة على الألف غير المقروء في الدرج وصلا اتفاقا كما في : ﴿لكنا هو الله﴾، ﴿أنا خير منه﴾، ولا يخفى أن المقروء لورش من طريق الأزرق هو ألف أنا المتبوعة بهمز محقق مفتوح أو مضموم نحو: ﴿أنا آتيك به﴾، ونحو ﴿أنا أحيي﴾.
7. عدم تبيان الراءات المرققة للأزرق من طريق الداني في التيسير؛ ليتأتى لكل متصفح المصحف معرفتها بما يميزها من ضبط تغلب عليه مصحف الشام بطباعة دار المعرفة بدمشق، لولا قصور في الاستقصاء والتتبع.
وهذه ملاحظات أخرى حول الرسم والضبط:
1. عدم وضع حركة البناء؛ أي: الضمة والكسرة، مع الهمزة الثانية المسهلة بين بين المضمومة كما في ﴿أ.لقي، ﴿أ.نزل﴾، ﴿أ.شهدوا﴾ .. والمكسورة كما في ﴿أ.ذا﴾، ﴿أ.نا﴾، ﴿أ.لـه﴾، ولن يتمكن القارئ غير المتخصص من دراية حركة البناء.
2. عدم تمييز ﴿اللاتي﴾ بصيغة الجمع عن ﴿التي﴾ بصيغة الإفراد، وقد وردت ﴿اللاتي﴾ بصيغة الجمع عشر مرات في المصحف ست منها في سورة النساء، ومرتين في الأحزاب، ومرة في كل من يوسف والنور، وقد ضبط مصحف الشام كلمة ﴿اللاتي﴾ بصيغة الجمع في مواضعها العشرة بألف صغيرة حمراء لتمييزها عن التي بصيغة الإفراد.
3. عدم ضبط ﴿من يقول ايذن لي﴾ ، ﴿يا صالح ايتنا﴾ ، بما يستدل به على صلة اللام والحاء بواو في اللفظ.
4. عدم نقط النون الأخيرة المظهرة اتفاقا نحو ﴿فمن خاف﴾، ﴿فإن خفتم﴾، لا يتناسق مع ما فيها من إظهار متفق عليه؛ إذ لا تتأتى تسويتها بالنون المخفاة كما في ﴿فمن جاءه﴾، ﴿فإن فاءو﴾.
5. وضع نقطة كبيرة فوق الواو المفتوحة المبدلة من الهمز الواقعة فاء الفعل المسبوقة بضم نحو: ﴿يوده، ﴿يواخذ﴾، ﴿موجلا﴾، ﴿موذن﴾، ﴿والمولفة﴾ .... ولا معنى لتلك النقطة فوق الواو المفتوحة المبدلة اتفاقا لورش.
8. إظهار التنوين غير المقروء بسبب نقل حركة الهمز المحقق بعده كما في: ﴿خير اهبطوا﴾ [ص 8 ]، ﴿أيام اخر﴾ [ص 23] وهو عجيب من أصحاب الضبط الذين لم يفرقوا بين تنوين مطروح لتحرك نونه الساكنة بحركة الهمز المحقق بعدها، وبين التنوين المظهر قبل أحرف الحلق نحو: ﴿سميع عليم﴾، ونحو: ﴿عذابا أليما﴾، ونحو: ﴿عدوا انكم﴾، والعجيب من اللجنة أنها ضبطت تنوينا مثله غير مقروء مثل: ﴿سميع بصير﴾ غير مظهر أي بقلب نونه الساكنة باء ورسمتها صغيرة بدل ازدواج حركة التنوين ولا يخفى أن قوله: ﴿خير اهبطوا﴾ تقرأ هكذ : خَيْرُنِهْبِطُو.
9. نَقط الياء صورة الهمز نحو: ﴿أنبئهم بأسمائهم﴾ [ص 5]، ﴿ولو جئنا﴾، لا يتناسق مع تعرية الياء المقروءة من النقط سواء كانت متحركة نحو: ﴿يدي إليك﴾، ﴿فأواريَ﴾ [ص 93] أو مدية نحو: ﴿سوءة أخي﴾، ﴿برسلي هزؤا﴾، ولعل من الأحسن تعرية الياء صورة الهمز من النقط تماما كتعرية الياء صورة الألف من النقط نحو: ﴿بِالبُشرَى﴾، ﴿علَى﴾، ﴿إلـَى﴾، وكذا نقط طل ياء مقروءة.
10. الاضطراب في موافقة الرسم العثماني ومنه إثبات ألف: ﴿أو إطعام﴾ في سورة البلد وإنما حمل اللجنة عليه التعصب لرسم الطالب عبد الله الجكني الذي خالفوه بحذف ألف ﴿ضعافا﴾ في سورة النساء، ولا يخفى حذفها كما لا شك في حذف ألف ﴿أو إطعام﴾ في البلد لكل من الداني وأبي داوود، وعليهما مدار المشارقة والمغاربة في الرسم.
إن الذي جعل وزارة الشؤون الإسلامية في موريتانيا لا تحدد طريق الأزرق في مصحف ورش:
هو ما ألفوه من جعل الهمزة الثانية من المتفقتين في كلمتين حرف مدّ، وهو مخالف لطريق الشاطبية والتيسير رغم الوجه الثاني في الحرز حكاية لا أداء كما هو قوله (وقد قيل محض المدّ عنها تبدلا) اهـ.
وهو ما عجزوا عنه من فرز الراءات المرققة للداني في التيسير، وإنه ليسير لكن على أهل التخصص والاختصاص.
وليصبحن مصحف موريتانيا بغية كل قارئ متخصص أو متعلم في بلادنا أو في مشارق الأرض ومغاربها حين يلتزم تحرير الطرق والأمانة العلمية، وليتذكر العالم به أرض شنقيط التي أهدت للعالم الإسلامي من فاقوا أهل زمانهم.
ولم تفقه وزارة الشؤون الإسلامية في موريتانيا ضرورةَ إسنادِ إخراجِ المصحف إلى أهل التخصص في موريتانيا وخارج موريتانيا على السواء؛ بل ألغتِ اعتمادَ لجنة علميّة لتصحيح المصحف، وكنتُ آخر مَن تسلَّم مشروع المصحف بتاريخ 25/1/2012 م من الوزارة لتصحيحه فأطلعتُهم على الملحوظات السالفة في تقرير مفصّل، فسارعوا في إلغاء اللجنة العلمية غير المؤهّلة شرعا لتصحيح المصاحف، وسارعوا في تعجيل طباعته دون تصحيحه.
وعلمتُ أخيرا بإعادة طباعته في بيروت فبراير 2018م وبنفس الأخطاء وأكثر، سأوافيكم بتقرير مفصّل عنها فور حصولي على نسخة منه.
وأُذَكِّرُ الوزارة الوصيّة بوجوب حَمْلِ الأمانة.
والله الموفق.
الحسن محمد ماديك
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة