محمد زحل

 

ولد الشيخ العلامة محمد زحل سنة 1943م/1363هـ في بلدة تيلوى دوار إكوزلن، فرقة آيت بها، قبيلة نكنافة حاحة الشمالية الغربية، وهي فرع من قبائل حاحة الكبرى التي تمتد فيما بين مدينة الصويرة ومدينة أڭادير على الساحل الغربي للمحيط الأطلسي. ولد والمغرب يعيش ظروفا تاريخية عسيرة، حيث كان يرزح  تحت نير الاستعمار الفرنسي و يعاني من ويلاته خاصة في المناطق الجبلية و الريفية التي يعيث فيها قواد القبائل فسادا في الأرض، كان المغرب الحبيب في هذه الفترة أسير أعدائه الأربعة، فرنسا المستعمرة والظالمة المؤذية والثلاثة الآخرين، الجهل والفقر والمرض، بالإضافة إلى الخرافات والبدع وانحراف التدين عن المنابع الصافية للدين التي لم يشبها الكدر من الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة والهدي العملي لخير القرون المشهود لها بالفضل والخيرية، وقد اضطر والده رحمه الله تحت وطأة الأسباب والظروف الآنفة الذكر إلى مغادرة بلدته، بحثا عن حياة أقل شدة وعيشة أقل ضنكا، فلم يجد أمامه غير مدينة الصويرة التي عمل في أحد مساجدها إماما و محفظا لكتاب الله تعالى، ويرجح أن هجرة والده وأسرته كانت ومترجمنا في العام الثاني من عمره في سنة 1944م. لكن الأسرة في السنوات الخمس التي قضتها في الصويرة لم تكن أسعد حالا ولا أكثر استقرارا كما كانت ترجو، فقد مات أخوه الأكبر وأخواه الآخران اللذان جاءا من بعده، فتشاءم والده بالصويرة والإقامة فيها فشد أمتعته وغادروا الصويرة غير آسفين عائدين إلى قبيلتهم “نكنافة ” من جديد وذلك في عام 1949م بعد عام من نكبة ضياع فلسطين و قيام دولة الكيان الصهيوني بها.

المسار الدراسي والعلمي:

كان نمو مترجمنا بطيئا، وبنيته شديدة الهزال، ولذلك لم يشرع والده في تعليمه مباديء القراءة والكتابة إلا في سنة 1950م، فبدأ في حفظ كتاب الله بدءا من قصار السور من آخر المصحف كما جرت العادة والعرف، وما إن وصل إلى سورة “الملك” حتى أصيب بشلل تام منعه من الدراسة، و حال بينه و بين القيام على رجليه، و لم تفكر الأسرة في طبيب ولا علاج، ولكنهم كانوا يذهبون به إلى بعض الأضرحة على عادة الناس في زمانه. وظل على هذه الحال مدة ثلاث سنوات حتى آخر سنة 1953م، ثم اندفع من جديد نحو الكتّاب، فاستأنف حفظ القرآن الكريم تحت إشراف والده الذي ترك البيت والفلاحة وباع كل مواشيه، وقرر أن يشارط  في مساجد المداشر والدواوير يؤم الناس في الصلاة و يعلم كتاب الله، ويشرف بنفسه على تعليم ابنه القرآن الكريم، فحذقه حذاقة تامة في ظرف أربع سنوات. وأتقنه وأحكمه لفظا ورسما، في سنتين ونصف.

ولأن منطقتهم إذ ذاك لم تكن بها مدارس نظامية ولا تعليم رسمي، فقد بعثه والده إلى المدرسة الجزولية لتعلم مباديء العربية والفقه ومفاتيح العلوم الأخرى، تحت رعاية صديق والده الشيخ أحمد بن عبد الرحمان السليماني الحسني -رحمه الله- الذي أولاه عناية خاصة، وحفظ على يديه كثيرا من المتون في العربية والفقه كالأجرومية، ونظمي الزواوي، والجمل، ولامية الأفعال، وألفية ابن مالك، وتحفة ابن عاصم، ومتن المرشد المعين، ومتن الرسالة لابن أبي زيد القيرواني، وبعض المتون الأدبية، كما حضر أيضا شرح كثير من هذه المتون، وكان الذي استفاده من أدب وسمت وحزم وصرامة هذا الشيخ أكثر مما استفاده من علمه. وكانت مدة مكوثه عند هذا الشيخ سنة وبضعة أشهر.

ثم ما لبث أن استأذن والده في الالتحاق بالمدرسة الهاشمية بمركز تْمنار الإداري في قبيلة “إذاﯖلول” من قبائل حاحة الكبرى، والتي كانت تبعد عن “الجزولية” بحوالي ستين كيلومترا، بعد أن ذاع صيتها وصيت شيخها  العلامة السمح سيدي البشير بن عبد الرحمان  السوسي البرحيلي المنبهي الملقب بتوفيق. وكان مما شجعه على الالتحاق بالمدرسة الهاشمية، اشتهار طلابها بالشجاعة الأدبية وجرأتهم على الكلام، وانتقادهم الأساليب العتيقة في التعليم لدى بعض الشيوخ، وهجومهم على الطرق الصوفية وانتقادهم لزواياها واعتراضهم على الأضرحة و غلو الناس فيها، وما يساق لها من القرابين والنذور. فأبدى حرصا شديدا على الالتحاق بهذه المدرسة، فاستفاد من علم شيخها وأدبه وخلقه وسمته. وبعد سنة قضاها في المدرسة الهاشمية، التحق مترجمنا بالمعهد الإسلامي بتارودانت الذي بناه المحسن الكبير “الحاج عابد السوسي” وكانت تشرف عليه وتديره جمعية علماء سوس، وكان من الأساتذة الذين تلقى عنهم في هذا المعهد في مختلف العلوم والفنون، جماعة من الشيوخ الأفاضل منهم السادة: محمد السرغيني، والطيب الباعمراني، وعبد المالك أزنير، وعبد الرحمان الرسموكي، وأحمد الوجاني البودراري، وأحمد العدوي وغيرهم، ثم ما لبث أن غادر تارودانت بعد سنتين متجها إلى مدينة مراكش حيث التحق بكلية ابن يوسف ذات الصيت الذائع  والتاريخ العريق، وأخذ فيها عن شيوخ نظاميين كانوا يتولون التدريس في الكلية، وآخرين غير نظاميين كانت لهم دروس خاصة في المساجد. فمن الأولين الشيوخ الأجلاء السادة : الحسين راغب، وأحمد أملاح، وحسن جبران، وعمر فوزي، والمختار السباعي، ومحمد التازي، ومحمد الحيحي المعروف ببزي وغيرهم، ومن غير النظاميين: العلامة الرحالي الفاروق، وعبد السلام جبران، والقاضي عبد السلام  السرغيني وغيرهم.

الوظائف التي شغلها:

تخرج الشيخ زحل رحمه الله تعالى من جامعة ابن يوسف في منتصف سنة 1963م. واتجه إلى مدينة الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمملكة، حيث شارك في مباراة مدرسة المعلمين دورة شتنبر ونجح صحبة مجموعة من الزملاء ممن درسوا معه بمراكش، وبعد سنة من التكوين في الدروس النظرية والعلمية تخرج بنجاح وتفوق مما خوله التعليم بنفس المدينة، فعمل معلما في عدد من المدارس الحكومية، ثم شغل منصب مفتش للكتاتيب القرآنية بنفس المدينة.

إسهاماته العلمية والدعوية:

كان نشاطه مزدوجا حافلا متواصلا، فكان يقوم بالتدريس ويمارس الدعوة في المساجد والأندية ودور الشباب والجمعيات الثقافية. وشهد له أقرانه وتلامذته ومحبوه بالعمق الفقهي والفكري والأدبي والتاريخي الممزوج بروح الدعابة والنكتة البليغة.

وقد خطب مترجمنا الجمعة في مساجد: جامع الحجر بدرب غلف، ومسجد الحاج علي الهواري بالقريعة، ومسجد السنة بدرب الطلبة، وجامع الشهداء بالحي المحمدي، وألقى دروسا متوالية طويلة الأمد في كل من المسجد اليوسفي، والمسجد المحمدي بحي الأحباس، و مسجد الفوارات بالحي المحمدي، والجامع العتيق بعين الشق، ومسجد الحفاري بدرب السلطان، ومسجد بين المدن، ومسجد التوحيد، بحيث ابتدأ تفسير القرآن العظيم سنة 1976م من سورة الفاتحة وانتهى سنة 2008م إلى سورة الحشر.كما شرح كتاب “التوحيد” للشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسجد الفوارات. ودرَس آيات الأحكام في المسجد اليوسفي، كما فسر سور المفصل فيه وفي المسجد المحمدي، وباشر شرح صحيح الإمام مسلم على امتداد سنتين في جامع الشهداء الذي كان خطيبه أيضا. ودرَس جزءا كبيرا من جامع الترمذي في مسجد الفوارات. وشرح صحيح البخاري على امتداد ثلاث عشرة سنة في جامع عين الشق العتيق من أوله إلى كتاب المظالم.

شارك المترجم في تأسيس الحركة الإسلامية أوائل السبعينات بمعية الأساتذة عبد الكريم مطيع، وإبراهيم كمال، وعبد اللطيف عدنان، وعلال العمراني، وعمر عصامي، وإدريس شاهين وآخرين. وأسس مجلة الفرقان سنة 1984م وأدارها مدة عشر سنوات بمعية الدكتور سعد الدين العثماني، وكتب فيها مقالات مختلفة ونُبذا من تفسير آيات الأحكام . كما عمل في “جمعية أنصار الإسلام” صحبة الفقيه العلامة محمد مفضال السرغيني، والأستاذ محمد الجبلي. وكان كاتبا في التوجيه الإسلامي في “جمعية شباب الدعوة الإسلامية” التي كان مركزها في عين الشق بالدار البيضاء، وكان عضوا في “رابطة علماء المغرب”، وحضر مؤتمرها السابع بمدينة أكادير صحبة المرحوم إدريس الجاي، ومحمد فوزي، وأحمد العمري. كما حضر مؤتمر اتحاد الطلبة المسلمين في أوربا فرع إسبانيا في مخيم رالفكار بضاحية غرناطة سنة 1972م، وألقى فيه قصيدة صحبة الأستاذين عبد الكريم مطيع وإبراهيم كمال، وكان من جملة الحاضرين في هذا المؤتمر، الأستاذ زهير الشاويش رئيس المكتب الإسلامي ببيروت، والعلامة محدث الشام الأستاذ ناصر الدين الألباني، وكان المِؤتمر تحت إشراف الأستاذ نزار الصباغ السوري الذي قتل شهيدا ببرشلونة رحمه الله. كما شارك في تأسيس  منظمة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وحضر مؤتمرها في مدينة إستانبول بتركيا سنة (2006م). كما أسس مع ثلة عدد من علماء المغرب العربي” تحاد علماء المغرب العربي” وظل رئيسا له حتى وافاه الأجل، كما كانت للشيخ رحمه الله مشاركات عديدة في مؤتمرات علمية وثقافية في الداخل والخارج.

وفاته:

توفي الشيخ محمد زحل رحمه الله يوم 23 غشت 2017 في مدينة الدار البيضاء عن عمر ناهز 74 عاما، بعد أسبوعين من خضوعه لعملية جراحية في إحدى المصحات الخاصة في مدينة الدار البيضاء إثر تعرضه لأزمة قلبية. وقد كانت جنازته جنازة مهيبة حضرها الآلاف من المشيعين، يتقدمهم جمع غفير من العلماء والمشايخ والدعاة من مدن مختلفة من المغرب وخارجه. ووري جثمانه الثرى بمقبرة الغفران بالدار البيضاء.